المركبة
المركبة
وقفت المركبة الصغيرة تنظر الى صفحة الماء باعجاب شديد , عيناها تلمع اثر انعكاس اشعة الشمس على الماء , لها بريق عجيب ممزوج بالشهوة , وقفت المركبة تتأمل الماء و امواجه الصاعدة و الهابطة .....و فيما كان الرجال ينزلوها برفق من على رصيف المينا الى الماء , احست المركب بشعور غريب , فهى لاول مرة مرة سوف تلامس الماء , فهى لاول مرة سوف تختبر نعومته , و ها هى اللحظة التى لطالما انتظرتها , لحظة تغلغل قطرات الماء فى قاعدتها الخشبية , لحظة اتحادها مع الماء الذى ما لبث ان لامسها حتى انتشر يملأ الفراغات بين الخشب ليعلن اتحادهما الابدى .
وقفت المركبة الصغيرة و السعادة تملأها , و لم لا و الماء يحيط جنباتها , كانت تضحك و يعلو صوت القهقهة كلما مر قارب او لانش فيحدث موجة صغيرة و لكنها كافية لاسعادها فتتمايل معها فرحانة , و انتبهت اخيراُ لمجدافيها الصغيران و بدأت تحركهما باعجاب , تغرسهما فى الماء ثم ترفعهما و تنظر الى قطرات الماء الذهبية المتساقطة عن المجدافين حين ينزلون الى الماء و كانت ترى تلك الدوائر الصغيرة التى تحدثها تلامس القطرات مع صفحة الماء بذهول شديد ...
و فيما هى تلعب و مستمتعة بذلك , كان الرجال يحملونها بمختلف انواع السلع و البضائع المتعددة الاشكال و الاحجام , فقد كانوا مدركين انهم يعدوها لرحلة طويلة مجهولة الهويه , لا يعرف احد لها وجه او اتجاه , رحلة سوف تعيشها المركبة وحدها ..... اما المركبة فقد كانت لا تدرك شيئاً مما يحدث , بل كانت تنظر الى المراكب الاخرى القديمة و المتهالكة التى تملأ جنبات المينا و يملأها الفخر و الكبرياء , و فى لحظة احست انها امتلكت البحر و ما فيه و لولا الحبل الذى كان يربطها برصيف المينا لكانت انطلقت دون شك فى رحلتها المجهولة .....ـ
اخيراُ اتم الرجال تحميل المركبة بما لا يسمح لاى راكب بها , المركبة فقط
و جاءت اللحظة الحاسمة , و التى تنتظرها المركبة بفارغ الصبر : فقد فك الرجال الحبل و اصطفوا حولها , لم تسمع المركبة ما كانوا يقولون و لكنها تعتقد انهم كانوا يصلون او ما شابه , لم تعر لذلك اهتماماً , المهم انهم تركوها بمفردها دون قيود ....ـ
بدأت المركبة تحرك مجدافيها و الفرح يغمرها , بدأت تخطو اولى خطواتها فى عالم مجهول , وكانت كلما ابتعدت عن المينا , ترجع ببصرها للخلف لترمق المينا بنظرة وداع و ظلت عيناها عليه من بعيد و هو يصغر امامها و يتضائل الى ان صار نقطة صغيرة ثم اختفى و غاب عن نظرها و ظلت المركبة عيناها معلقتين عليه لعلها ترى منه اى اثر , لعلها تراه للمرة الاخيرة و لكن دون جدوى , و جذب انتباهها مثيلاتها من المراكب الاخرى , فاخذت تتباهى بالوانها الناصعة لتثير استفزازهم , و رأت انه لا داعى لكى تبحر ببطىء , و هى قادرة على الاسراع , و بدأت تدفع بمجدافيها فى المياة حتى وصلت لسرعتها القصوى , و رأت انها سبقت الكثيرات من زميلاتها , و كانت فخورة بما هى عليه و بما حققته من انجازات ولكن فى قمة فرحتها بمجدها كان لابد لها و ان تشعر بالارهاق فقررت ان تريح مجدافيها قليلاً معتمدة على سرعتها التى وصلت اليها من تجديفها المستمر ، اراحت المركبة مجدافيها و نامت و لم ترد ان تستيقظ معنمدة على سرعتها و استلذت الكسل .... معتمدة على سرعتها .
مر الكثير و الكثير من الوقت حتى افاقت المركبة و ياه للمفاجأة القاسية فقد وجدت المركبة نفسها فى حالة سكون لم تعتقد يوما ان سرعتها تلك التى وصلت اليها يمكن لها ان تزول سريعاً و قبل ان تفيق من صدمتها كانت قد تلقت الثانية : فقد وجدت مثيلاتها قد كبرن و اصبحن بواخر كبيرة ينظر الناس اليها باعجاب , يرفعون قبعاتهم و ينحنون احتراما لهن , اصاب المركبة خيبة امل كبيرة و تحول الماء الذى يحيطها الى مزيج من ماء و ندم و حينما عزمت على البدء من جديد , لم يكن القدر رحيم بها و اتاها بالصدمة الثالثة و التى كادت ان تقتلها : فقد تسرب اليها الصدأ و كسى كل مفاصلها و مجدافيها و اصحبت حركتهما ثقيلة .
نظرت المركبة حولها طويلاً , و ادركت انه ما من سبيل للرجوع , ادركت انه يجب عليها تكملة ما بدأته , ادركت ان الطريق ذهاب فقط و
ان فرصتها الوحيدة فى النجاة و الخلاص مما هى فيه يمكن فى :استمرار المسيرة ........؛
.
البداية